في الماضي، كان الطفل يتربى بين أحضان الأسرة، يسمع صوت والده وهو ينصحه، ويشعر بحنان والدته وهي ترعاه. اليوم، تغيّر كل شيء. الأب منشغل بهاتفه، والأم تتابع “التيك توك”، والطفل ينمو بين فيديوهات “اليوتيوب” و”الريلز” التي لا يعرف صانعها أصلاً. نحن أمام جيل لا يُربّى، بل “يُبرمج”، والأسرة التي كانت حجر الأساس في التربية تحولت إلى مجرد “واي فاي” يوفر الإنترنت، وينتهي دورها عند إدخال كلمة السر.
مواقع التواصل .. تواصل أم تخريب؟
يقولون إن مواقع التواصل الاجتماعي جاءت لتقرب المسافات، لكنها في الحقيقة فرّقت بين الجالسَين في نفس الغرفة. صار الحوار الأسري مقتصرًا على “جيب لي الشاحن”، و”هاك شوف هاد الفيديو”. الأب يجلس على الأريكة، يضحك مع شاشة هاتفه وكأنه في جلسة عائلية مع “الفيسبوك”، والأم تطهو بينما تتابع آخر وصفات “التيك توك”، والأطفال في زوايا البيت غارقون في “الألعاب الإلكترونية”. فهل هذه أسرة؟
المصيبة ليست فقط في انشغال الآباء عن تربية الأبناء، بل في “التربية البديلة” التي تفرضها مواقع التواصل. الطفل يتعلم من “الترند”، والمراهق يستمد أفكاره من المؤثرين الذين يبيعون الوهم بالملايين، بينما الأسرة تنظر بصمت، كأن الأمر طبيعي، رغم أن القيم تُسرق أمام أعينهم.
هل كان كل هذا مدبرًا؟
السؤال الذي يطرح نفسه: هل صانعو هذه الهواتف وتطبيقات التواصل الاجتماعي خططوا فعلًا لتدمير الأسر، أم أن الأمر مجرد “صدفة تكنولوجية”؟ حين نرى كيف يعيش أباطرة التكنولوجيا، نلاحظ شيئًا غريبًا. مارك زوكربيرغ، الذي صنع “فيسبوك”، يحدّ من استخدامه لأبنائه. مؤسسو “غوغل” و”أبل” يمنعون أبناءهم من الإدمان على الشاشات. لماذا؟ هل يعرفون شيئًا لا نعرفه؟ هل يريدون أن يكون أبناؤهم قادة، بينما يتحول أبناؤنا إلى “زومبي رقمي”؟
ما الحل؟
نحن مجتمع محافظ، للأسرة فيه مكانتها، والتربية فيه أساس كل شيء. الحل ليس في “إلغاء” التكنولوجيا، فهذا ضرب من المستحيل، لكن في ضبط استخدامها.
1. القدوة قبل النصح: كيف تطلب من ابنك أن يقلل من الهاتف وأنت تقضي يومك ملتصقًا بشاشتك؟ التربية تبدأ من الآباء أولًا.
2. ضبط أوقات الاستخدام: لا ضرر في أن يكون للطفل وقت محدد لاستخدام الإنترنت، مع مراقبة المحتوى الذي يتابعه.
3. إعادة إحياء الحوار الأسري: عوض أن يكون النقاش الوحيد في البيت عن “واش شحنت ليّا الكونتور”، لماذا لا يعود النقاش عن القيم والأخلاق والحياة؟
4. التربية على التفكير النقدي: علّم أبناءك أن لا يصدقوا كل ما يرونه على “الريلز”، وأن ليس كل مؤثرٍ “قدوة”.
5. الأنشطة الواقعية: الرياضة، المطالعة، اللعب الجماعي، كلها بدائل تنقذ الأطفال من الغرق في العالم الافتراضي.
ختامًا.. التكنولوجيا ليست العدو، لكن الغباء هو العدو الحقيقي
مواقع التواصل ليست شرًا مطلقًا، لكنها مثل السكين، إما أن تقطع بها الخبز أو تجرح بها نفسك. المشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في غياب الوعي في استخدامها. إن استمررنا بهذا الشكل، فالمستقبل واضح: أسر مفككة، أبناء بلا هوية، وأجيال تعيش داخل الشاشات، بينما الواقع ينهار أمام أعينهم. والسؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم قبل فوات الأوان: هل نحن نستخدم الهواتف، أم أن الهواتف هي التي تستخدمنا؟
أبو ريان