أطلس سكوب
أطلس سكوب موقع اخباري مغربي
afterheader desktop

afterheader desktop

after Header Mobile

after Header Mobile

قول في التدريس

 بقلم عبد العظيم انفلوس

إن واقع الحال في ميدان التربية والتعليم اليوم ليشهد بكل أسى ترديا أخلاقيا وقيميا كبيرا، يكاد يلحظه الناظر لمجرد معاينته لمستوى المتعلمين وظروف التعلم ومناهجه، ويزداد الأمر غمة إذا كان المدرس جزءا من المشكل، وليس طرفا في الحل، كما هو مراد منه.

لقد عاشت الأجيال الماضية على تقدير المعلم واحترامه وتبجيله، والخضوع لنصائحه وتوجيهاته، وتقديم المدرس على غيره في كافة المجالات والمناسبات، وأحاطت هالة من الاحترام والوقار بشخصه، فلا يكاد يخطئ الناظر من بعيد الرجل حتى يعلم أنه مدرس، لما يظهر في سمته وهندامه وكلامه وأسلوب تعامله، من عظيم الحكمة وكبير الرزانة.

ومع تقادم الزمن أسهمت عوامل عدة في تقهقر هذه المكانة الاعتبارية للمدرس، وأودت بها في مدارك لا تخفى على صاحب نظر وبصيرة، فمنذ صار التعليم مجالا لمحاربة البطالة والبحث عن لقمة العيش، وطغى على من يرتاده الهم المادي الصرف، بدل الهم الرسالي، إلا وبات واقع المنظومة: أفواجا من الفشلة، أساتذة وتلاميذ، مع استثناء طبعا لكل صاحب خلق نبيل وشهامة في أداء مهمته ورسالته.

إن محصلة هذه الأزمة في الأمة لممكن قراءتها من عدة وجوه، تشخص المشكل من جهة؛ وتبين في الآن ذاته علاجه وسبل تجاوزه.

غياب الشخصية الأستاذية:
سلف معنا في بداية الكلام إشارة إلى نموذج المدرس المعهود والمألوف في الماضي، أستاذ يتمثل أستاذيته في كل حركة وسكنة يقوم بها في حياته … فتراه متورعا، متعاليا عن سفاسف الأمور، منغمسا في كبارها … لباسه، مشيته، ابتسامته، حياؤه، سخاؤه … إلخ، كلها علامات تطبع جوانب شخصيته، وتجعله نموذجا يطمح الكثير إلى السير حذو أفعاله واقتفاء آثاره ونمط حياته.

ثم تجده أكثر من هذا حاملا لهم رسالته، يتجاوز حدود العمل الوظيفي المقرر له، إلى سبر أغوار متعلميه والكشف عن أوجه النقص والتعثر لديهم، فيكون بذلك موضع ثقة؛ يحكون له آلامهم ومعاناتهم، ويشاركونه أسرارهم، ويفرحونه بإنجازاتهم، ذلك أنه صاحب التقييم الأول، والمعيار الذي يحتكم إليه المجتمع في الصواب والخطأ … كلمته مسموعة، ورأيه معقول، وأقواله ينزل عندها الجميع.

هكذا كانت شخصية المدرس بالأمس، وما يزال أثر وصدى من ذلك في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا إلى اليوم، لكنه قليل لا يرقى إلى المستوى المطلوب، فجل أو غالب من يلجون الميدان الآن، تعوزهم هذه الشخصية الأستاذية الحقيقية، وهو ما يسبب لهم الارتباك والحيرة والتوتر في التعامل والأداء، فيخرجهم عن الدائرة الخاصة بالتربية والتعليم إلى ما سواها، مما يجعلهم غير مختلفين ولا متميزين عن غيرهم.

فالمدرس الذي يسيء الأدب مع متعلميه، وينتقص من قدر أخيه المدرس ولا يترك مسافة تربوية كافية بينه وبينهم، هذا فضلا عن الانعزالية أو الاتكالية والتكاسل الذي يتصف به الكثير، مما يجعلهم منفرين عن الميدان لا محببين ومرغبين فيه.
إن على المدرس أن يعيش دوره الأستاذي ويجعله داخلا في يومه وتسوقه وتنزهه ورياضته، حتى إذا شوهد عرف، وإذا تحدث فهم أنه ينتمي إلى ميدان التربية والتعليم، فليس يستقيم أن يتساوى الأستاذ مع غيره من العامة في أمور كثيرة، ليس من باب التفضيل، وإنما هو من جانب حفظ الخصوصية والتفرد له، لأنها ضرورية في أداء رسالته، والإخلال بها هو ما يجعل آثارها العكسية جالبة للمعاناة له في عمله، فتنمر التلاميذ وسخريتهم واستهزاؤهم بالأستاذ مرده ومرجعه إلى الأستاذ نفسه، فهو من أودى بنفسه إلى أن يصير موضوعا للنكت والمزاح، وموضوعا للنقاش في قضايا العنف ضد رجال التعليم مثلا، أو غيرها من المواضيع التي لا ينبغي أن تطرح أساسا لو تمثل كل مدرس أستاذيته على الوجه المطلوب.

ضعف التمكن العلمي: فالمدرس الذي لا يمتلك السلطة المعرفية داخل فصله ومع تلاميذه، حري به العودة إلى مقاعد الدراسة والتعلم، أو تكثيف جهده الشخصي في تدارك نقصه وسد موطن الخلل العلمي والمعرفي لديه.

ذلك أن جزءا كبيرا من فرض شخصية المعلم لنفسه واكتساب احترام متعلميه، راجع للتمكن من تدريسية مادته وموضوعها، وهو لا يعذر بأي شكل من الأشكال في هذه الأخيرة، ذلك أن الأولى تكتسب عبر التجربة والممارسة العملية والاحتكاك الواقعي، لكن الأخرى لا يجدر بها أن تكون موضوعا للنقاش أصلا.

ولذلك حسب الناظر أن يسأل التلاميذ عن تعامل المدرس معهم داخل الفصل، فإذا سمع عبارات من قبيل (الميز، القمع، السرعة في إنهاء الدرس … وغيرها) فليعلم بأن سبب ذلك راجع في غالبه إلى تخوف الأستاذ من مادته أو قلة ضبطه لتخصصه.

ويعزى هذا في جانب كبير منه أيضا إلى طريقة ولوج أمثال هؤلاء إلى ميدان التعليم، والذي يكون غالبا إما بواسطة، أو محسوبية، أو غش، فكيف ينتظر ممن ولج التعليم بالغش أن ينهى عنه، أو يربي ويخرج لنا جيلا متخلقا متعلما واعيا وبانيا لوطنه.

إن أمثال هؤلاء ممن يلجون القطاع هربا من شبح البطالة أو خوفا من مرور الزمن والأيام بدون عمل أو وظيفة، فلا يجدون مهربا من ذلك سوى التعليم، باعتباره أكبر قطاع للتوظيف، ليعتبرون بحق أكبر وبال ونقمة لحقت بالميدان، حيث تجد في شخصهم الفصل بين المبدأ والواقع، بين القول والفعل، بين النظري والعملي، ولذلك يكثر بينهم الشقاق والضغائن والمشاحنات، بعيدا عن أي أسلوب تربوي أو قيمي، أو هم أخلاقي، قد يضطلع به الواحد منهم في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من طرفه هو، إعمالا لقوله تعالى: {حتى يغيروا ما بأنفسهم}.

غياب المواكبة والتطوير:
ويعتبر الجمود والانغلاق ثالثة الأثافي التي تعصف بواقع التربية والتعليم اليوم، ينضاف إليه رفض لأي شكل من أشكال التغيير في الأساليب أو المهام أو الأدوار، مما يقيد حرية الإبداع والتنمية للأستاذ وتلاميذه على حد سواء.
ويمكن في هذا الصدد أيضا الإشارة إلى انغلاق المدرس على التعلم الفصلي وانعدام الرغبة في ربطه بواقع الحياة اليومية للطالب، لأسباب كثيرة … متناسين أو متغافلين عن ما يعيشه العالم من طفرات وما شهده من سرعة في التقدم والتغير، سرعة تحتاج بلا ريب إلى من يواكبها ويستغل أحدث ما جادت به في سبيل تطوير نفسه وطرائق تدريسه وتعليمه، فالعالم اليوم يتغير بين لحظة وأخرى، ونحن بحاجة إلى تعليم تلاميذنا الحياة أكثر من نعلمهم المعارف والمعلومات، لأنها موجودة متوفرة، يكفي أن يتملك المتعلم الأدوات والمنهجيات الخاصة بالبحث عنها وتوظيفها.

لكن السؤال هو فيما ستفيده في حياته اليومية، لأن عمره لا يقتصر على ساعة أو ساعتين يقضيهما داخل الفصل والمدرسة، بل هو ممتد طولا وعرضا في علاقته بأسرته ومجتمعه ومحيطه بشكل عام، وبالتالي فلا بد أن يمتلك ما يواجه به هذه الحياة ليعيشها، وهنا يأتي دور الأستاذ الحقيقي، ليدله على الطريق ويهديه إلى جادة الصواب، عبر مختلف الطرق والأساليب المتاحة لذلك.

وختاما فإن واقع التدريس والأستاذية ليرزح بالفعل تحت وطأة الهدم والانحلال، ولا بد من تكاثف الجهود الفردية والمؤسسية معا، بغية بعث الروح فيه من جديد، والنهوض به لإخراج بناة الوطن وحماة الهوية.


تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد