بقلم الأستاذ: حسن تزوضى
نعم، لقد أصبح المعلم قتيلاً، ولم يكد يكون رسولاً، هذه العبارة لم تعد مجرد استعارة مأساوية، بل أضحت توصيفاً واقعياً لحالة من الانحدار العنيف الذي يعرفه الفضاء المدرسي المغربي، حيث صار المعلم هدفاً لاعتداءات مادية متكررة، تمارسها أيدٍ كان من المفترض أن تتعلم منه الحرف والكلمة والكرامة. لكن ما الذي يجعل اليد التي يجب أن تكتب هي نفسها التي تضرب؟ ما الذي يجعل صوت المعرفة يُقابَل بالصراخ والاحتقار؟ إنها ليست مجرد حوادث معزولة، بل مؤشرات على تحوّلات عميقة تمس جوهر المدرسة ودورها في المجتمع.
العنف الذي يعاني منه المعلم اليوم ليس وليد لحظة غضب أو انفعال مراهق، بل هو نتاج عنف رمزي منهجي مارسته الدولة على مدى سنوات طويلة، حين أفرغت الفعل التربوي من روحه، وجرّدت المعلم من رمزيته، ودفعت به إلى هامش المعادلة الاجتماعية. التعاقد، التهديدات، الاقتطاعات، التوقيفات والمحاكمات كلها ليست إلا تجليات لعقيدة سياسية ترى في التعليم مجرد خدمة عمومية قابلة للتدبير المحاسباتي، لا مشروعاً لبناء الإنسان. حين تُهان كرامة المعلم باسم التقشف، يُعاد تشكيل اللاوعي الجماعي ليحمل صورة مشوهة عن هذه المهنة، فيتحول الاحتقار من خطاب سلطوي إلى سلوك يومي داخل الأقسام.
ما يحدث اليوم هو انتقال من عنف رمزي تمارسه السلطة السياسية، إلى عنف فعلي يمارسه المتعلم، وهذا الانتقال لا يتم إلا حين تنهار الحواجز الرمزية التي تحيط بالمؤسسة التعليمية، وحين يفقد التلميذ الإحساس بقدسية الفضاء المدرسي، وينظر إلى المعلم لا كمرشد وموجه، بل كخصم وعدو. إنها علامة على فشل مزدوج: فشل القيم التي من المفترض أن تُبنى داخل المدرسة، وفشل المدرسة نفسها في أن تكون سلطة معرفية وأخلاقية.
في مجتمع تُكسر فيه صورة المعلم، تُكسر في العمق صورة الإنسان، لأن المعلم ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو تجسيد للمعنى، لحضور السلطة التي تحمي الحوار من الانزلاق إلى الفوضى. وإذا ما أُفرغت المدرسة من هذا البعد الرمزي، فإنها تتحول إلى ساحة عبث، يتصارع فيها الأفراد بلا مرجعية، وتنهار فيها الحدود بين التعلم والعدوان، بين السلطة والاحتقار.
هذا الانهيار لا يمكن مواجهته بتقارير أو تصريحات مناسباتية، بل يحتاج إلى وقفة تأمل حقيقية، إلى لحظة وعي جماعي تُعاد فيها صياغة سؤال التعليم من جديد: ما دور المدرسة؟ ما وظيفة المعلم؟ ما علاقة الدولة بالمعرفة والمدرسة ؟ إنها أسئلة فلسفية لا يمكن القفز عليها إن أردنا الخروج من هذا المأزق الوجودي. القوانين وحدها لا تكفي، ولو شُددت، ما لم تواكبها إعادة بناء رمزية الفعل التربوي، وخلق تصور جديد للمدرسة باعتبارها مجالاً لصناعة الوعي لا مجرد فضاء للحراسة وتمرير البرامج.
إن الدولة التي تفشل في حماية معلميها، إنما تفشل في حماية مشروعها المجتمعي ذاته،وبالتالي في حماية ذاتها ومستقبلها ، لأن المعلم ليس فقط موظفاً في مؤسسة، بل هو حامل لوعد حضاري، وصانع لمستقبل لم يولد بعد. وإذا صار هذا المعلم مهدداً داخل القسم، فإننا جميعاً مهددون خارجه، لأن العنف الذي يُستهان به اليوم، سيتحول إلى قاعدة غداً، وما يُمارس ضد المعلم اليوم، سيُمارس ضد المجتمع كله حين تنهار القيم ويُستبدل الحوار بالقوة.
ما نعيشه ليس مجرد أزمة قطاع، بل لحظة انهيار رمزي، تستدعي استجابة تتجاوز التكنوقراطي والسياسي، إلى أفق فلسفي يعيد بناء المعنى. لأن المعلم حين يُضرب، فإن الحقيقة نفسها تُصفع، ومتى صفعنا الحقيقة، خسرنا القدرة على بناء أي مستقبل.
afterheader desktop
afterheader desktop
after Header Mobile
after Header Mobile
تعليقات الزوار